الأحد، 11 يونيو 2017

التسمم بلعبة الشطرنج | كتاب The Royal Game



ذلك النوع من الكتب ، الذي تقتنية لمجرد ملء وقت الفراغ المستديم حولك .. ثم وبلا سابق إنذار يأسرك بغموضه
إنها قصة ، أقصر من أن يضمها كتاب ، وأطول من أن تُنشر في مجلة أو صحيفة
بِضع صفحات تقرأها في ساعات و تُذهل من عبقرية الكاتب في نسج حروفها.
 كيف لا يكون هذا العمل عظيماً وغامضاً ؟! فهو محصور في رقعة ملكيّة لا تتجاوز أبعادها الـ 8×8 مربعٍ فقط ! إنه عالم الأبيض و الأسود، عالم التجرد من كل شي و صب كل التركيز في الأحجار و المربعات ، لا وجود للصدفة في هذا العالم ، لا سيادة فيها إلا للذكاء البشري.. بتحريك البيدق وبقية الأحجار وحماية الملك ستكون بطلاً فيه. 

لكن احذر ! قد تكون أنت الحجر في رقعة الشطرنج !



الدفاع الصقلي و دفاع الملك الهندي وغيرها من افتتاحيات لعبة الشطرنج هل سبق ورأيت هوساً يقود للجنون بمجرد افتتاحية بسيطة في لعبة الشطرنج ؟

قيل أن الشطرنج لا يرهق الذهن أبداً ، بل يزيد من مرونته وحيويته ... حسناً هذا بالطبع إن كنت من الهواة الذين يتخذون الشطرنج تسليةً فقط .. لكن ماذا عن الذين اتخذوه عالماً بحد ذاته ؟ يبنون بأنفسهم وبأدواتهم عالماً مصغراً عالماً متفرداً لا مثيل له. تعددت أسباب اتخاذهم لهذا العالم مكان يتمحورون حوله فمنهم من كان سببه بحثاً عن الشهرة و المال ، ومنهم من كان سببه لطرد امبراطورية الفراغ الجاثمة على روحه إلى أن أصبح أسير هذا العالم.

وهذا مازاد فضولي و هوسي لإكمال الكتاب ، فقد نصب الكاتب فخاً عبقرياً للقارئ ، و قبل أن أخبركم بهذا الفخ .. الأجدر أن أقوم بالتعريف بصاحب هذا الفخ عن قرب !



ستيفان زفايج Stefan Zweig أو ( شتيفان تسفايغ ) كاتب نمساوي ولد في الثامن والعشرين من نوڤمبر سنة 1881 في فيينا من عائلة يهودية. درس علم الفلسفة في جامعة فيينا ويعد من أشهر كتّاب أوروبا ، عُرف بموضوعيته و عدم انحيازه لشخصيةٍ أو حزب ما حتى بالحديث عن ديانته ، فقد صرح في مقابلة له " إمي و أبي ولدا يهوديين بالصدفة فقط " . لديه أعمال أدبية ضخمة و عالمية وبعضها تحولت لأعمال سينمائية مثل فيلم ( Letter from an Unknown Woman )



أقدم ستيفان على الإنتحار سنة 1942 مع زوجته قبل نشر هذا الكتاب بسبب ما حل بالاقتصاد العالمي و ماشهدته الحرب العالمية الثانية 
كتب مئات الرسائل التوديعية لأقاربه و اصدقائه ، وبعد الانتهاء من الرسائل ابتلع هو وزوجته عدد كبير من الحبوب المنومة إلى أن فارقا الحياة متعانقين بجانب بعضهما. 

كتب ستيفان لصديقه هرمان كيستن رسالة قبل وفاته بأسابيع يتحدث بها عن هذا الكتاب .. ( إنه أشد غموضاً من أن يفهمه جمهور القراء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته ) 



اسم الكتاب : le joueur d'échec
عُرف بعد الترجمة لعدة لغات بـ : لاعب الشطرنج ، قصة شطرنج ، اللعبة الملكية
تاريخ النشر : 1943
أعمال مقتبسة من الكتاب : الفيلمين
 The Royal Game ( 1980 )
brainwashed ( 1970 )




بعد عدد لا بأس به من الصفحات ستقتنع بأن البطل هنا راعي أبله تحول بيوم وليلة لبطل وعبقري في الشطرنج كان مجرد غلام عند قسيس عجوز , يراقب لاعبي الشطرنج بعد أن يفرغ من أعماله ..إلى أن عرض عليه أحد أصدقاء القسيس أن يكمل اللعبة معه من لسد الملل و تضييع الوقت .. حتى ذُهل بموهبة هذا الصغير في تحريك أحجار الشطرنج و توقع حركات خصمه ! أخذ القسيس يتباهى بغلامه شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح بطل العالم المتعجرف ومنذ ذلك الحين وهو يعتبر نفسه أهم رجل على الأرض .. وإن كان هذا البطل عبقرياً في الشطرنج فقد كان يعاني قصوراً حاداً في مخيلته جعلته يحمل رقعة الشطرنج معه دائماً ليتمكن من تشكيل المباراة في مخيلته ! 

يصف ستيفان هذا القروي بطل الشطرنج فيقول ( ارتبطت عبقريته الفريدة بكسل فكري جذري ، مثل جوهرة يتيمة يلفها غشاء يزن مئة كيلوغرام )


كنت مقتنعة إلى حد كبير أن الكتاب سينتهي لصالح هذا البطل 
لكن وقعت في الفخ .. فستيفان كان يريد جذب إنتباه القارئ لبطل أخر تماماً .. عبقري الشطرنج الذي لم يرى رقعة الشطرنج منذ أكثر من 25 سنة ! 


دكتور ( ب ) هو محور حديثنا الآن ! السجين الذي وقع فريسةً للتعذيب من قبل الحركة النازية. هو الذي اتخذ الشطرنج عالماً ليطرد الفراغ الجاثم عليه، الفراغ الذي كان يعتقد أنه سيقوده للجنون لامحالة ، متناسياً أن الجنون قد يحل عليه من اللعبة التي ملأت هذا الفراغ ! 

بكتاب صغير سرقه من أحد المحققين و في زنزانته الصغيرة ، متخذاً لحافه رقعة للشطرنج ، تحول هذا السجين لمهووس بهذه اللعبة. تحولت متعة اللعب إلى رغبة ثم هذه الرغبة تحولت إلى ضرورة ثم إلى هوس وجنون ! يقول الدكتور (ب) : إن الرغبة في لعب الشطرنج ضد نفسك أشد تناقضاً من الرغبة في القفز فوق ظلك. 
كان غالباً ما يستيقظ بجبين متعرق حتى اكتشف أنه يواصل اللعب حتى في نومه !



هل تعرف كم هو مرعبٌ أن يكون الشخص هو الأبيض و الأسود في الوقت نفسه ؟ 
كيف له أن ينصب فخاً و خطةً مرسومة ضد خصمه إن كان هذا الخصم هو نفسه ! وكيف له أن يتصدى هجوم القلعة إن كانت متوقعة في وقت سابق ؟ 

هو يحمي مملكتين في الوقت ذاته ، يحرك الحصن و البيادق المتضادة ، يتحدى نفسه ، يشتم نفسه ، ينتصر على نفسه ويُهزم من قبل نفسه ! 
شيئاً فشيئاً إلى إن إنتقل من مجرد فريسة للنازيين إلى حجر تتحكم به لعبة الشطرنج ، خرج الدكتور (ب) من السجن بعد نوبة الجنون ، قطع وعداً لنفسه أن لا يُقحم نفسه في هذه اللعبة مرة أخرى.. إلى أن وقع نظره على مبارة للاعبين من الدرجة الثالثة مع بطل العالم في الشطرنج .. وهنا أخلف وعد نفسه بإقحام نفسه في مباراتهم ! 


أحببت التنقل بالأماكن في الكتاب .. من حجرة القسيس إلى باخرة راقية إلى سجن إنفرادي و غرف التحقيق.

تقييمي للكتاب 4 من 5 ، نقطة واحدة  بسبب إنتحار السيد ستيفان قبل أن يشهد آراء معجبيه بهذا العمل ! فالكتاب نشر بعد وفاته وليس قبله.


كان هذا الكتاب أول كتاب أقرأه من أعمال ستيفان زفايج ولن يكون الأخير بالتأكيد .. 
إن سبق وقرأت شيئاً من أعماله ، شاركني رأيك حول أسلوبه الأدبي



شكراً 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق